الأعمال الكاملة

للشاعر عبدالواحد الزهراني

https://abdlwahed.com/wp-content/uploads/2025/09/white_bottom_01-big-size.png
bt_bb_section_bottom_section_coverage_image

قصيدة يوم كل هجع في مهجة النوم

يوم كنا سنة أولى ثانوي

في قصيدة يوم كل هجع في مهجة النوم، يبحر الشاعر أ.د عبدالواحد بن سعود الزهراني في عوالم الفكر والتاريخ، ليعيد قراءة الماضي بعينٍ يقظةٍ رغم سكون الليل.
هنا لا يتحدث الزهراني عن زمنٍ بعينه، بل عن دورةٍ إنسانيةٍ كبرى تتكرر فيها المآسي والانكسارات، ويظل الإنسان شاهدًا على مجده وزواله في آنٍ واحد.
من خلال هذا النصّ، تتجلّى فلسفة الشاعر في النظر إلى التاريخ بوصفه مرآةً للضمير لا للأحداث فقط، إذ يربط بين سقوط الحضارات القديمة وأزمات الإنسان الحديث، وكأنه يقول إن التاريخ لا يكرر نفسه إلا حين نغفل عن دروسه.
بهذا العمق والتأمل، تتجاوز القصيدة حدود الشعر إلى نصٍّ يزاوج بين الوعي والتاريخ والإنسانية، بأسلوبٍ فخمٍ متينٍ يليق بقلَمٍ يعرف كيف يصوغ الفكر في قوالب من الشعر.

البدع

يوم كل هجع في مهجة النوم رحت أقـرى كتـاب
في سطوره بقية مجد واثـار مـن تاريـخ ضايـع

من هنـا لا هنـا متناثـره مثـل حبـات الغبـار
عشت حلم امبراطورية الروم وايوانـات كسـرى

قبل نصبح رعاع في حكومـة هرقـل وقيصـري
ونهزاميـت الفرسـان ذات الصـوراي خلفتـهـا

لولقي ما لقينـا جـف مـن وادي اليرمـوك مـاه
ساعتهـا قلـت للتاريـخ متمـرديـن يلمعـونـه

يقحمون الحقيقة الواحضة بين كذب وبيـن زيـف
والتهمت إن في عينـي مـن أيـام وليالـي قذيـه

انطوت في جفـون العيـن وأخرجتهـا واذرفتهـا

الرد

يا عسى من حقرته واحتقرته ورى احتقراك تـاب
أعرف الروس إذا ما ذله الله مـا تـاري خضايـع

بعض الاصحاب مثل القرش الابيض في أيام الغبار
كان ودك نضيق وينكسر خاطـري وأنـا تكسـرى

ويـش يدخلـك مـرٌ ماينـا زم والا قيـصـرى
البشـر حشـدت قواتهـا والصواريـخ ألفتـهـا

أول الصف يرمينا وباقـي البشـر يرمـوا كمـاه
بشروني عن الملهـوف مـن ينقـذه ويلـم عونـه

كل حاجر يقيض وكـل عضـو يبـادر بالنزيـف
آنا ما ودي آجرح بسيـف الكـلام وتلقـى اذيـه

عدهـا غلطـة منـي وذرفـت لسـان اذرفتـهـا

الأبعاد الفكرية

ينطلق الشاعر في هذه القصيدة من التاريخ بوصفه مرآةً للحاضر، إذ يربط بين انكسارات الأمم الماضية وضياع القيم في واقع الإنسان المعاصر.
في البدع، يرسم الزهراني مشهدًا تأمليًا يبدأ بليلٍ ساكنٍ وكتابٍ مفتوح، ليعيد من خلاله بناء مشهدٍ حضاريٍّ غابرٍ عاشته الأمم، ثم فقدته:
“يوم كل هجع في مهجة النوم رحت أقرأ كتاب
في سطوره بقية مجد وآثار من تاريخ ضايع”
تبدأ الرؤية من الذاكرة وتنتهي بالحسرة؛ فالشاعر يستحضر مجد الروم والفرس لا ليمجّدهم، بل ليستخلص العبرة من سقوطهم:
“قبل نصبح رعاع في حكومة هرقـل وقيصـري
ونهزاميـت الفرسـان ذات الصـوراي خلفتـهـا”
يستخدم الزهراني الرمز التاريخي ليعبّر عن واقعٍ متكرر، حيث تتحول الأمم من القوة إلى الضعف حين تفقد وعيها الذاتي.
ويُبرز الشاعر كذلك موقفه الفلسفي من الحقيقة حين يقول:
“ساعتها قلت للتاريخ متمردين يلمعونه
يقحمون الحقيقة الواحدة بين كذب وبين زيف”
إنها صيحة ضد التزييف التاريخي، وضد من يحاولون تجميل الهزائم وتلميع الانكسارات، وكأن الشاعر يرى أن الصدق هو أول ضحايا الترف والغفلة.
أما في الرد، فيتحول الخطاب من التاريخ إلى الإنسان، من الحضارة إلى الذات.
يبدأ الزهراني بالدعاء والصفح، ثم ينحاز إلى القيمة الأخلاقية العليا التي ترفض الغرور وتدعو للتوبة والاتزان، فيقول:
“يا عسى من حقرته واحتقرته ورا احتقراك تاب”
ويمر بعد ذلك إلى وصفٍ دقيقٍ للناس ومواقفهم في الشدائد، مؤكدًا أن الوفاء لا يُختبر في الرخاء، بل في الأزمات:
“بعض الأصحاب مثل القرش الأبيض في أيام الغبار”
ثم يبلغ ذروة الحكمة حين يعترف بخطئه:
“عدها غلطة مني وذرفت لسان اذرفتها”
بهذا البيت الختامي، يثبت الزهراني أن القوة لا تعني القسوة، وأن الاعتراف بالخطأ هو ذروة النضج الإنساني.
القصيدة بذلك تجمع بين التأمل في التاريخ والنظر في الذات، بين الفخر والانكسار، بين الماضي الذي يحذر، والحاضر الذي يعيد الخطأ نفسه.

الخاتمة

قصيدة يوم كل هجع في مهجة النوم عمل فكريٌّ بامتياز، تُظهر قدرة الشاعر عبدالواحد الزهراني على توظيف التاريخ في خدمة الوعي الإنساني.
من خلال مزيجٍ من العمق الفلسفي والصدق العاطفي، يصوغ الزهراني نصًّا يتجاوز الوصف إلى نقدٍ واعٍ للتاريخ والبشر، كاشفًا أن المجد لا يُبنى بالقوة بل بالوعي، وأن سقوط الحضارات يبدأ من لحظة الغفلة.
إنها قصيدة تحمل رسائل للضمير الجمعي، تُعيد للذاكرة احترام الحقيقة، وتدعو القارئ إلى تأمل ذاته قبل أن يحاكم الزمن.

إترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تم وضع علامة عليها بـ *

الأعلى