في قصيدةٍ تتوشّح بوقار الحكمة، وتفيض بأنفاس الأبوة والوصية، يقدّم الشاعر أ.د عبدالواحد بن سعود الزهراني عمله الخالد موعظة ونصيحة، قصيدة تجمع بين الإيمان العميق والفكر الأصيل، وتغدو منبرًا للأخلاق كما هي لوحة فنية من جمال الكلمة.
يخاطب الشاعر ابنه بلغةٍ حانية لا تخلو من الحزم، فينثر من التجربة ما يعين على الفهم، ومن الحكمة ما يُضيء الطريق.
هذه القصيدة ليست مجرد أبيات، بل وصية تُكتب بالحبر والدم، وتُروى من عمق التجربة الإنسانية والوفاء للأسرة والوطن والقيم.
ومن خلال بنائها اللغوي المتين وموسيقاها الهادئة، تُجسّد القصيدة مدرسة شعرية تستقي قوتها من عمق التراث العربي، ومن روح الجنوب التي تُزاوج بين الشموخ والبساطة، وبين الاعتزاز واللين.
البدع
فارس وانا ابوك اذا عمرت وامتدت بك الايــــام
فانا باسوي قصيدة وانت خذها موعظه ونصيحـــه
احفظها واعمل بها وافهم معانيها وعش بهــــا
اول ما وصيك به سنة محمد والعمل والتقــــوى
لا تسير الا على الدين الحنيف ومنهج النبــــي
واحتسب واصبر اذا مالت عليه الهجرة الماليــــه
اتعض من مدرسة جدك سعيد ومن حياة ابـــوك
وان قالوا وش ثروتك ما المال قل يكفيني اني حجري
واني من دعوى العضيلات الكرام ومن بني عمــر
والتهمني واحفظ اسمي وانطقه من حين اللينا حينــا
واعدي لي بالعفو لامنك نشدة الناس قالوا مـــات
والقدر سلم عظامي في ايد ناس يدفنونهـــــــا
مكثور خير محمد ابن سعيد عزم وجوه الخير في حفل فارس وكمل الواجب ولا قيصرا.
الــــــرد
ا سلامي يا الرجال اللي نخاطبهم بكاليــــــام
ياسلامي عد ما تبدي نجوم لامعه ونصيحــــــه
وعدد ما تظهر ارض الله بزينتها وعشبهـــــا
ما يشيل في المدوح الا رجاجيل عليها تقـــــوى
لا تجي للمدح يا رجل البخيل ومنه جنبــــــي
وانا مالي في تبوك اسم ولا جاه ولا ماليــــــه
لو تظلي مثل جنة عدن وش لي من حياة تبـــوك
الافي حشمة رجال كنهم نون العيون وحجــــري
ليلة ما بينهم زادة في ايامي بني عمـــــــر
لايقولون الشعاعير ان جانا شاعر يلاحينــــــا
يشهد الحبر الفصيح وتشهد اوراق وقالوا مـــات
اني انا حاكم العرضه وانا سيد فنونهــــــــا
فرقت ما بين الشقي والسعيد لو يجتمع روما
معا جيش فارس ما همني كسرى ولا قيصرا.
الأبعاد الفكرية والإنسانية
تكمن قيمة موعظة ونصيحة في التوازن الفريد بين الفكر والإيمان، بين التجربة الشخصية والبعد الإنساني العام.
يبدأ الشاعر خطابه موجّهًا إلى ابنه فارس، مستحضرًا صورة الأب المربي الذي لا يورّث المال، بل يورّث الحكمة والخلق، فيقول:
“فارس وانا ابوك اذا عمرت وامتدت بك الأيام
فانا باسوي قصيدة وانت خذها موعظة ونصيحة”
بهذا الاستهلال، يعلن الزهراني أن الشعر وسيلة تربية، وأن الكلمة قد تحمل ما لا تحمله الخطب والكتب من أثر.
ويؤكد في وصيته على أساس الحياة السليم: الإيمان والعمل والتقوى، فيقول:
“اول ما وصيك به سنة محمد والعمل والتقوى”
هنا يتجلّى البعد الديني المشرق، الذي لا يكتفي بالتوجيه، بل يربط السلوك بالعقيدة، والحياة بالمنهج النبوي.
ثم يتجه إلى البعد الإنساني والاجتماعي حين يربط هوية الفرد بجذوره، ويجعل الفخر بالأصل شرفًا لا تعصبًا، قائلًا:
“وان قالوا وش ثروتك ما المال قل يكفيني اني حجري”
إنها فلسفة الاكتفاء، حيث يرى الشاعر أن الثروة ليست فيما نملك، بل فيما نحمل من قيم وكرامة.
ويواصل تأكيد هذا المعنى بقوله:
“واني من دعوى العضيلات الكرام ومن بني عمر”
هنا تظهر ملامح الاعتزاز بالقبيلة والهوية، لا من باب المفاخرة الجوفاء، بل من باب الوفاء للمنبت والرجال الذين بنوا المجد بالصبر لا بالزيف.
في الجزء الثاني من القصيدة – الرد – تتخذ اللغة منحى أكثر عمقًا وواقعية، إذ يعلن الشاعر أن المجد لا يُقاس بالألقاب أو المكانة الاجتماعية، بل بالفعل والوفاء، فيقول:
“وانا مالي في تبوك اسم ولا جاه ولا مالية
لو تظلي مثل جنة عدن وش لي من حياة تبوك”
وهنا تبرز رؤية الزهراني الفكرية الواضحة: أن الحياة بلا كرامةٍ لا تُعاش، وأن الشاعر الحقيقي ليس من يُصفّق له الناس، بل من يُنصت له التاريخ.
ثم يختم بحكمة الفن والتأثير:
“يشهد الحبر الفصيح وتشهد أوراق وقالوا مات
اني انا حاكم العرضه وانا سيد فنونها”
تعبير يختزل الوعي الفني الذي يحمله، إذ يدرك أن الشعر ليس لهوًا لفظيًا، بل رسالة، ومسؤولية، وفعل وعيٍ متوارثٍ عبر الأجيال.
الخاتمة
قصيدة موعظة ونصيحة تُعيد الشعر إلى مكانته الأولى: أداة بناءٍ للإنسان والمجتمع.
فيها يلتقي الدين بالإنسان، والعقل بالعاطفة، والهوية بالانفتاح.
يكتب الشاعر عبدالواحد الزهراني ليعلّم أن الكلمة يمكن أن تُخلّد ما تعجز الألقاب عن حفظه، وأن الأب حين يُورّث أبناءه الشعر، فإنما يورّثهم المجد.
تظل هذه القصيدة من النصوص التي تُقرأ مرتين: مرة بالعقل لتُفهم، ومرة بالقلب لتُحسّ، فهي مزيج من الحكمة، والوفاء، والخلود الأدبي الذي لا يزول أثره.