في ساحة الشعر النبطي، لا يجتمع الكبار إلا حين تكون الكلمة ميدان فروسية، والبيت رمية تصيب المعنى وتُدهش السامع.
قصيدة منتم سكارى تمثل مشهدًا شعريًا استثنائيًا جمع بين أربعة أسماء وازنة في المحاورة السعودية:
البدع للشاعر أ.د عبدالواحد بن سعود الزهراني، والردود لكل من محمد بن حوقان، هميل، وأبو علاج.
القصيدة تحوّلت من ميدان تحدٍّ إلى ملتقى فكرٍ، إذ يعيد كل شاعر تعريف معنى القوة، والفخر، والبيان بلغته الخاصة.
بين عمق الحكمة عند عبدالواحد، وحدّة الارتجال عند ابن حوقان، ورشاقة الصورة عند هميل، وخفة الظل عند أبو علاج — وُلد نصٌّ تتناوب فيه الجدية والطرافة بإتقان نادر.
البدع – أ.د عبدالواحد بن سعود الزهراني
منتم سكارى غير كنكم سكارى
السود معكم بيض والابيض اسود
اسمع وترجم في الحكي يامترجم
العام الاول يوم ربيت لك طير
حطيت بيض الطير في عش هامه
الرد – الشاعر محمد بن حوقان
فتحت الابواب الغلاظ السكارا
في قصدي اتسيد على منهو اسود
وابليس قدامي ولا ادري متى ارجم
اخذ من البندق صنيع البياطير
واخذ من المجد الرفيع الشهامة
الرد – الشاعر هميل
نسكر الا شفنا بعض العذارى
تشهد لنا العراف والرب يشهد
الفرق واضح ياهل السمن والسم
العام تصنع لك عصي وبواكير
واليوم طلعت العسل من تهامة
الرد – الشاعر أبو علاج
ياللي تعذر ماتفيد العذارا
ولا تجي في داخل الرب ياشهد
احترت في وسم الجمال الموسم
ياللي لقيت لكم بوادي بوا كير
تبغى تخاصم لك نمر وانت هامة
الأبعاد الفكرية
فن التعدد الصوتي في الشعر النبطي:
القصيدة نموذج نادر يجمع بين أكثر من شاعر في نص واحد، دون أن يفقد الخطاب توازنه. كل شاعر يقدّم زاويته الخاصة، لكنهم جميعًا يتقاطعون عند فكرة الفخر والتميز اللغوي.
اللعب بالرموز والمعاني:
في البدع يقول عبدالواحد: «السود معكم بيض والابيض اسود»، وهي مفارقة رمزية تعكس تبدّل الموازين، بينما في الردود يعيد الشعراء تأويل الصورة في سياقاتهم الخاصة، فتتولد سلسلة من المعاني التي تمزج الجمال بالسخرية الذكية.
اللغة كأداة تحدٍ وبلاغة:
يتعامل الشعراء مع اللغة هنا كمنبر للدهاء، فكل بيت يحمل رداً ضمنيًا على سابقه، بإيقاع قوي ومعنى مركّب. هذه المحاورات تمثل ذروة الارتجال في الموروث الشعري السعودي.
رمزية المكان والانتماء:
تتكرر الإشارات إلى تهامة، العذارى، النمر، السمن والسم كرموز محلية تستحضر الهوية والمكان في سياق الفخر الشعبي، مما يمنح النص روحًا واقعية مرتبطة بالبيئة الجنوبية.
الطرافة كقيمة أدبية:
رغم حِدّة الردود، تسود روح الدعابة والذكاء، فيوازن النص بين الجدّ والهزل، بين التباهي المشروع والنكتة الشعرية، ما يجعله نصًّا ميدانيًا بامتياز.
الخاتمة
تُعدّ «منتم سكارى» واحدة من المحاورات التي تؤكد أن الشعر النبطي ليس مجرد تلاعب بالألفاظ، بل فنٌّ حيٌّ يجمع النباهة والحس الاجتماعي، والمقدرة على المزج بين الصورة والمعنى.
فيها يثبت عبدالواحد الزهراني مكانته كصوتٍ متفرّدٍ يطلق الشرارة الأولى، ويردّ عليه ابن حوقان ورفاقه بذكاءٍ وعمقٍ، لتتحول المنافسة إلى احتفاء بالشعر نفسه.
هي قصيدة تَعرِضُ مشهدًا متكاملاً من الأصالة، وتوثّق لحظة من أجمل لحظات الشعر الشعبي السعودي، حيث الكلمة ميدان، والحضور مجدٌ من البيان.